Friday 24 August 2018

طائر أزرق

حينما أحببتُ , وشِمَ على رسغي طائرٌ أزرق , وسَكَنْ. بدا الأمرُ كما لو كان بديهياً أن يَسْكُنَ رسغي طائرٌ أزرق يَحمِلُ بمنخاره نبتةَ لافنِدرْ بنفسجية , كأن بيننا اتفاقاً ضمنياً مُسبقاً بحلولهِ وبقائهِ. في الِبدءِ ظَلَ صامتاً هادئاً ذا وجهٍ مُتهلِلٍ مُحببٍ للنفس. أسقطَ الطائر الأزرق نبتَتَهُ على ذِراعي , فكان أريِجُها , وكان جِسراً نحو السماءِ. سَرَتْ النشوة مَسَرىَ الروحِ وانتشى الجسدُ وحَلَقَ قُرب العُبابِ وعَبَرَ السَحابْ , خفقَ القلبُ حنيناً وانبسطَ بعد إنقباضاتِ كَمَّدٍ لسعيٍ طويل خلفَ سَرَابْ.
صَارَ الطائرُ الأزرق مُرنِماً بديعاً يُغِردُ مُنذُ انزِلاقَ الصَبَاحِ من رحمِ الظلامْ حتى سكونِ العَشِيّةَ. كُلما تَطَلَعتُ إليه ظَهَرَ مُتَهَللِاً يُبَادِلُني النظرَ ببهجةٍ وانبهارْ. بات المَلَكَ الثالثَ لمَلَكِيّ اليمينِ والشِمالِ فوقَ كتِفيّ , ملكاً أزرقاً لا يَكفُ عن الترْنيمْ , يُدَوِنُ كُلَ انتِشَاءةِ تَتَيُمِ ويُرَنُِم كل نَغَمَةِ وَجْدٍ , يُغَرِدُ عنْ كَلَفي وشَغَفْي , أمسىَ يُدَنْدِنُ نَغَمَ القَيَثَارِ حين يُحرِرُ الهَوَىَ. إنه طائرٌ أزرقٌ ذو نبتة لافندر بنفسجية موشومٌ على رسغي. 
حينما فَارَقْتُ , ألَمَني الرسغُ , لم تَسَلْ الدِمَاءُ قَدَرَ الدَمَعْ. أراد الطائرُ الأزرقُ أن يَنْزِعَ عن نَفْسِهِ صَفَدَ رسغي. بعُنفٍ تَحْرَرَ , غَيرَ أنه نَسَيّ نَبْتَتَهُ عَلَىَ ذراعي , فلم يَخْبو الأريجْ. ظَنَنَتُه سَيُحَلِقُ هارباً بعيداً عن تلك الروحِ الهزيلةِ , أو سَيَسْكُنُ رَسَغَاً أخرْ , لكنه ظَلَ مُحلِقاً علىَ مَقْرِبَةٍ مِنِي , لا يبتعدْ ولا يقتربْ والأسوءْ .. أنه لا يتوقف عن الترنيم!
عَزَفَتْ روحي قُدَاسَاً مُرَوْعِاً وهَلِكَتْ في ظلامٍ دَامِسٍ , كَلَيْلَةٍ بِلاَ قَمَرْ أو نُجُومْ , لَكِنَهُ ظَلَ مُحلقاً على مقربة مني , لا يَكُفُ عَنْ التَرْنِيم. لم يَعُدْ رَنِيمْهُ ذا وقعٍ مُحَبَبٍ على نَفْسِي , بَلْ صَاَرَ أقَرَبُ إلىَ مَرْثِيَةٍ كئيبةٍ تَجْثِمُ فوق الروحِ , ذلك لإنه لا زال يُرنِم كل انتشاءة تتيم وكل نغمة وجدٍ , يغرد عن كَلَفي وشغفي , يُدندن نغم القيثار حين حرر الهوى.
لم يعُد بإمكاني تَحَمُلُ رَنِيمِه أو أريِجِ نَبْتَتِهِ الذي يَنْخُرُ عِظَامِي ويَهْتُزُ له القَلْبُ ألَمَاً. تَمَنَيْتُ أن أُسْكِتَهُ , أن أَرْديِهِ قتيلاً , لكنه حَذِرْ , وحتى إن واتَتَنِي الفُرصَةَ لإخماد رنيمه , لن أستطيعَ ذلكَ , ففي النِهايةِ كَيفَ يُمْكِنُ لشَخْصٍ مِثْلِي أن يؤذيَ طائراً فظاً بديعاً كَذَلِكَ الطائرْ!
يَرْمِقُنِي تَارَةً ويُهْمِلُنِي تارةً أخرىَ , يرمقني تِلكْ المَرَةَ بعينٍ ثابتةٍ ووجهٍ خالي من التعابيرِ , يَفْرِدُ جَنَاحِيِهِ الأزرقينِ بهيمنةٍ. رُغْمَ جَمَالِ أغَاريِدِهِ – لِمُنصْتٍ غيري بالطبع – إلا أن مَلاَمِحِهِ حَادَةٌ صَامِتَةٌ وجِامِدَةٌ .. تماماً كالمَوتْ.
لا يُمْكِنُنِي فَهَمَ لُغَةِ الطُيُورِ ولا أظنهُ يَفهمُ لِسَانَ البشرِ , لكِنَنَا نَتَوَاصَلْ. رُغْمَ ألَمِهَا , إلا أن أغَاريدهُ تَسْكُنُنِي كالمُهَاجِرِ العائدِ لوطنهِ المُبْتَلَىَ.
حينما أحببتُ , عانَقْتُ طائراً أزرقاً ورحَبْتُ به مُقدِسَاً نغمِهِ ورَنيمِهِ , ولم أدرِكْ أنَ ذلِكَ الرَنِيمَ سَيَغْدُو جَحِيماً مُصَغَراً يَتْبَعُنِي دونَ مَلَلٍ.
يوماً ما , خَبَىَ أريجُ اللافِنْدِر , وتَوَقْفَ رَنِيمُ الكائنِ الأزرقِ , وخَيَمَ الصَمْتُ. ما كان مُدهشاً هو تفتيشي بِهَوَسٍ عن الطائرِ الأزرقِ ونبتتهِ! ولم يَكُنْ هُناك. مُنذُ ذَلِكَ الحِيِنِ صِرت خدِراً فاقداً للحِسِ. مَرّ وقتٌ وانْتَبَانِي الشَوْقُ لأريجِ اللافَنِدِر وأغاريدِ الطائرِ , وتَيَقَنْتُ أنَ كِلَيْهِمَا كَانَا أخر ماتَبَقَى لِي مِنْ قُدَرَةٍ عَلَىَ الإتْيَانِ بِالشُعُورِ والحِسِ. ولا زِلْتُ بَاحِثَاً عَنْهُمْ غَيَرَ أنَ الطائرَ لَمْ يَعُدْ مُحَلِقاً عَلَىَ مَقْرِبَةٍ مني .. وللأسف فقد كَفَ عَنِ الترنيمْ.








Friday 18 May 2018

لافتات ملونة

-   هل تعرف أليخاندرو خودورفسكي ؟ كريستوف كيشلوفسكي ؟ ستانلي كوبريك ؟ لا ! ماذا عن جان لوك جودار ؟! فرانسوا تروفو ؟! أندريه تاركوفسكي ؟! أوروسن ويلز ؟! لا ! فعلاً ! لمن تشاهد أفلاماً إن لم يمُر عليك أحد من هؤلاء ؟!
كانت تلك صفعة لطيفة من أحد الأصدقاء الشغوفين بالسينما حينما تحادثنا للمرة الأولى عن الأفلام المُفضلة والممثلين والمخرجين وأجمل الممُثلات على الساحة السينمائية , بيد أن ثقافتي السينمائية لم تكن قد تخطت أفلام كريستوفر نولان المُثيرة وتُحف تارينتينو الدموية وعهد مارتن سكورسيزي الحديث وبعض أفلام التسعينات الشهيرة والألفية الحديثة بالإضافة إلى سلسلة أفلام هاري بوتر الرائعة ..
على أي حال لم أشاهد فيلماً واحداً لأيٍ من هؤلاء المُخرجين المذكورين في ذلك الجدال من قبل , فقط أقرأ أسمائهم كثيراً في مُراجعات الأفلام التي يطرحها العديد من أعضاء مجموعات السينما. كلاً منهم له لونه الخاص وتُحفه السينمائية التي لا تُقدر بثمن. لا أنُكِر أنني إنبهرت بمُجمَل أعمالهم حينما شاهدتها بل أنني وقعت في حب العديد منها ولم تُفارق ذهني منذ ذلك الوقت مثل ثلاثية الألوان لكيشلوفسكي أو برتقالة كوبريك الألية ورحلة الأوديسا الفضائية التي تُمثِل لُغزاً سينمائياً خالداً , غير أنني لاحظت الإحتفاء الشديد بُمشاهدة تلك الأفلام من قِبل العديد من المتابعين للسينما بل وقد يتحول الأمر في بعض الأحيان إلى تقسيم فِرق لكل مُخرِج حيث ينتمي كل مُتفرج إلى أفلام مُخرِج مُعين ويقدسه ويُمجِده ولا يعترف بوجود بشر مِثله قد لا يُعجبهم ما يقدمه ذلك المُخرج!  

ما حركني لمُشاهدة تِلك الأفلام حديثة العهد على مسامعي راسخة الأقدام في صفحات التاريخ السينمائي لم يكن فضولاً لمُشاهدة الأعمال نفسها كعادتي حين أشاهد فيلماً جديداً بل أذكر شعوري جيداً , كان رد فعل عنيف وإنفعالي على وصفي أنني مُشاهد " mediocre " أي متوسط المستوى ليس مُحترفاً يُمثل عامة المُشاهدين اللذين ينبهرون بأفلام الكوميكس وسلاسلfast and furious   , وهو مُصطلح يندرج كثيراً في الأوساط الفنية ويُطلق دائماً على المُجتهدين في تقديم فنهم ولكن مع قلة الخبرة أو إفتقاد تام أو جزئي للموهبة! على أي حال فقد قادني ذلك النعت للغوص في عالم سينمائي لم أكن أعرف عنه شيئاً من قبل. ولم تُصبح السينما بالنسبة لي شيئاً أستمتع به كسابق العهد بل باتت منهجاً أدرسه حتى أغدو محاوراً جيداً بين رفيعي المقام في نقد الأفلام وإستخراج الكادرات العظيمة والحوارات العميقة بين الممُثلين ومعايير إستحقاق الممثلين للجوائز السينمائية و .... إلخ. بالرغم من أنها خبرة رائعة قد أفادتني كثيراً إلا أنها أفقدتني القُدرة على التمتع بالأفلام العادية المديوكر كما يُطلق عليها والتي كانت جزء مُهم من تكويني الفكري والإنساني كما كانت أيضاً جانباً ترفيهياً رائعاً يملأ الكثير من الثغرات بداخلي , فقد أدركت فجأة أنني أبذل جُهداً كجُهد إستذكار الدروس في إستخلاص الأفكار والعِبر من الأفلام القاتمة التي صِرت أشاهدها على مضض فقط لكي أحتفل بأن الفيلم العظيم " كذا " قد أصبح في جُعبتي السينمائية وأستطيع التحدث عنه ونقده دون أن أظهر بمظهر المُشاهد العادي المديوكر فأصير مقبولاً بين هؤلاء المثرثرين ومحبوباً !

قرأت من قبل إقتباس عن السير أنتوني هوبكينز من مُسلسل " West world " يعني أن المعرفة البشرية التي يسعى البشر لإكتسابها في أي مجالٍ ليتحدث عنها ويجادل بها في العديد من المجالس هو أمر أشبه بفرد الطاووس لأجنحته مُعبراً عن جماله ورونقه ومظهره الجميل. فالبشر مُعظم الأوقات يحاولون الظهور في أفضل كيان فكري وعقلاني من خلال جمع أكبر قدر من المعلومات ومحاولة الجدال بها لإن في ذلك شعوراً بذاتهم وأهميتهم. قرأت إقتباساً أخراً من فيلم Before sunrise للمخرج ريتشارد لاينكليتر , حيث تتسائل بطلة الفيلم تساؤلاً إستنكارياً " أوليس كل مانفعله في حياتنا ونعرفه ونمارسه هو محاولة لجني حُب الأخرين وإستحقاقه ؟!" أتفق كثيراً مع الإقتباسين حيث أستطيع تطبيقهما على نفسي في العديد من المواقف الحياتية الخاصة بي غير أنني لا أستطيع الجزم بأن تلك التفسيرات هي المُطلقة أو الحاسمة حول السعي خلف المعرفة أو التعمق في شئٍ ما ! فهناك شغف حقيقي لا يمُت للتباهي بصلة يولد في نفس العديد من البشر ويقودهم نحو المعرفة أكثر فأكثر .. 

الأمر بالنسبة لي أشبه بكوننا كبشر نسير طوال حياتنا حاملين لافتات ملونة ندون عليها كل ما نعرفه أو نشعر به أو ننتشي به وما يُمثِل لنا سعادة وما يُسبب لنا حُزن و.... إلخ في محاولة لإيجاد من هم أقرب إلينا من غيرهم , وإن لم نستطع بلافتتنا المُستقلة جذب الأخرين فإن ثقتنا تهتز بما دونناه على لافتتنا ومع الإحتياج الشديد للمساندة نلجأ للإنمساخ أو الإنسلاخ عن الذات .. 

ماحدث لي كان جزءاً مُصغراً من الإنسلاخ عن الذات والذي لم يكتفي أن يُسيطر عليّ في نطاق السينما فحسب بل تسرسب في خِفة إلى أفكاري وشعوري فصِرت أستعير ما أقدمه لمن حولي وأخبئ ما بداخلي حتى أظل محبوباً. إن أزمة فقدان الهوية هي مُشكلة يُعاني منها عدد مهول من البشر في العديد من الأماكن والأزمنة وهي ظاهرة ليست حديثة العهد فقد نوقشت في العديد من الكتابات منذ عقود ولعل أبرز من تحدث بها كان فرانز كافكا في كتابه الإنمساخ " حينما إستيقظ جريجور سامسا في فراشه بعد أحلام مزعجة ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة " أما اليوم ونظراً لإختلاط الهويات وإنتشار التناقض والسلبية التي أصبحت مطراً يهطُل دون توقف كذلك وضع جميع المبادئ والمفاهيم ومظاهر الألم أو السعادة كمادة للسخرية وصُنع الكوميكس إلى جانب تجِبُر الضغط المُجتمعي بات الإنسلاخ عن الذات هو أحد سِمات العصر في محاولة شبه يائسة لإرضاء مُعظم الأطراف بإختلاف أفكارهم ومبادئهم ومناظيرهم الخاصة في قياس الأمور , ما يؤدي إلى إهتزاز ثقة الشخص بأفكاره ومضمون أحاديثه وطُرق تعبيره عما يجول بخاطره وترَّصُد النفس في كل موقف حتى لا ينطق بكلمة أو يقوم بفعل لا يتناسب مع ذاته الهلامية الجديدة فتُفقِده رونقه الخادع. ويحدث ذلك حين يصطدم بأشخاص شديدي الوقاحة يبصقون تعليقاتهم الساذجة حول مظهره أو مواضيع حديثه التي لا تناسبهم مثلاً بكل صراحة تحت بند المُزاح أو الحديث الجاد بل وقد يقاطعون حديثه الشغوف والمهم - بالنسبة له - مع أحدهم أو إحداهن بتساؤل مُضلل ليس له أدنى معنى مثل " مبتزهقوش من الهري ده ! " ولكن هذا النوع هو الأسهل في تفاديه فهم حِفنة من الفارغين اللذين ليس لحياتهم جدوى , أو حين يصطدم أيضاً بأشخاص لبقين ومُنمقين بشدة في الحديث يتسرسبون بخِفة ويبعثرون أفكار الشخص بكل أناقة ويستبدلونها تدريجياً بما يتبنوه هم من أفكار ومشاعر سلبية تجاه الحياة ونظرات سوداوية لمفاهيم الحُب والصداقة والعائلة و...إلخ , والمُثير في الأمر أن دوافع قيامهم بذلك ليست ذات نوايا سيئة في العديد من الأحيان أكثر من كونها تعليقات غاشمة مُحبِطة هي رِكام لتجارب حياتية مؤلمة سابقة تُنطق ببرود الثلج وتنهي وِصال ماتبقى من الشخص تجاه نفسه الحقيقية ! فيسعى للهرب من السخرية وعدم القبول بالإنصياع للمعايير الموضوعة له ممن هم حوله وكذلك يسقط في فخ الإكتئاب وسوداية الحياة والضغط النفسي المميت. وبهذا فإن كنا بشراً نحمل لافتات ملونة فإنها تغدو قبيحة مليئة بالخربشات والشخبطات التي تُعكر صفوها كذلك تصيرُ مليئة بما يُناقض ما نحن بالفعل عليه أملاً في إرضاء الأخرين وجذبهم دون أن ندرك أن تلك اللافتات قد باتت قبيحة لا تُرضي أحد ولا ترضينا نحنُ !  

وفقاً لتجربتي فإن أحلك الأوقات هي التي تشعر حينها أنك لا تستطيع التعبير عن نفسك أو تقبلها كما هي فلا يمكنك تقبُل أنك قد تُخطئ وأن الخطأ حق إنساني , ولا يمكنك تقبل واقع أن وزنك قد يزيد وأنه يُمكنك خفضه إذا أردت من خلال التمرين دون الحاجة للهلع عند النظر للمرآة وإستكشاف مخزونك من الدهون! ولا تستطيع أن تتحدث عن كتابك المُفضل أو فيلمك المُفضل أو وجهة نظرك المناقضة للعديدين أو أفكارك المُختبئة أو مشاعرك تجاه الأشخاص والأشياء حتى لا تقع في فخ " صانعي الدراما " وهو ما يُطلق على شديدي الشكوى من الحياة والبشر أو بمعنى أدق الحساسين أصحاب القلوب الرقيقة , وهنا يتسائل الشخص " أنا بعمل إيه هنا ؟! ده مش مكاني " وكنتيجة لكل ذلك الضغط فإنه يفضل العُزلة والقراءة والأفلام – أو أياُ ما كانت وسيلة هربه من الواقع - ومطاردة الحياة وحيداً.
أؤمن أن لأي شخص الحق في إقتناء بصمة فكرية وشعورية مُستقلة وأن له الحق في التعبير عنها حتى وإن كانت سيئة - يُمكِن بكل بساطة تفادي التعامل مع أي شخص إن لم يكن مُناسباً لنا - ومِن حقه أن يُنقَد على أخطائه بلُطف وموضوعية وأن يتلقى تعليقات على جميل أفعاله كما يتلقاها على سيئها , وأن يشعر بالحميمية الصادقة من الأقربين فتلك التي تجعله أكثر مرونة في التفكير حول نفسه بموضوعية ومحاولة الإرتقاء بها دون أدنى ضغط نفسي , فإبطال مفعول الإنمساخ يأتي إما من الأقربين اللطفاء اللذين يرممون جِدار الروح المُتساقط أو من الوعي الكافي من الشخص بنفسه , وفي كلتا الحالتين فإن الإنعزال المؤقت أفضل بكثير من التواجد في حيز يصنع منك مسخاً لا يمُت لنفسه بصلة فتتحول من شخص عادي كسامسا إلى حشرة ضخمة لن يقبلها أحد ولن تقبل هي نفسها !

Tuesday 10 April 2018

المنحوتة

قبل شهرين إنتهى جاري النحات من صُنع التمثال الخشبي الذي شرع في نحته منذ شهور عديدة , غمرته السعادة كما لو أن مطراً غزيراً قد إخترق مسام روحه. تنهد كما لو أنه ينزع عن عاتقه نير الإنتظار والتلهف ثم تراجع للخلف ببطء مُطلقاً صفارة موسيقية تصحبها إبتسامة واسعة ومُسلِماً نفسه لدفئ شمس الشروق التي تسللت في خفة عبر النافذة إلى مرسمه المتواضع والذي هو شقة صغيرة بالدور الأرضي لبناية والده ..

لم تكن تلك منحوتته الأولى , فقد نحت – بحكم كونه طالباً في كلية الفنون بالماضي – تماثيلاً عدة مِنها ماهو مُحاكة لتماثيل أصلية ومنها ماهو إبداعه الخاص , ولكن على أي حال لم يتخذ أياً من أعماله مكانة كُبري في قلبه لهذا الحد , ولكنه الأن قد شهد ميلاد عمل فني عظيم – من وجهة نظره – حيث كرس زمناً طويلاً من حياته ليصنع هذا التمثال. ألقى بجسده على الكرسي قبل أن يحملق بشغف إلى عمله العظيم . تبين البناء الغريب لمنحوتته حيث الهيئة الجسدية البشرية الخيلاء الملفوفة برداء خشبي يغطي التمثال بأكمله , ثم إبتسم في خبث مُنفثاً دخان سيجارته الرديئة الذي تراقص بفعل إطلاق الصُفارة الموسيقية , كان ذلك حين وقعت عيناه على الملامح المائعة – على طريقة سلفادور دالي - التي تمنع المُبصر من إدراك ما إذا كانت أنثوية أو ذكورية ! وإرتشف القهوة بهدوء.
يوقن النحات أن الخشب مادة تتآكل نسبياً وتتشقق تدريجياً بفِعل الحرارة بل وقد يتعرض نحته للتقوس بفِعل الرطوبة ويتفتت من حشرات السوس .. لكنه لا يكترث فهو يوقن أيضاً أنه سيهبه العناية المطلوبة .. 
لقد راود النحات حُلماً ظهر فيه ذلك الكيان وحينما إستيقظ رسمه بسرعة على ورقة بيضاء حتى لا ينساه ثم شرع في نحته. لم يُدرِك الدافع وراء نحت ذلك الكيان الغريب والرغبة المُهيمنة في إحضاره للحياة دون إنقطاع الشغف. ولكن ما أدركه النحات بشدة  كان ذوبان الشعور السلبي بوجه عام بمُجرد رؤية ذلك الكيان في حُلمه ! فلم يكن هناك حُزن أو هم أو كآبة أو إنتظار أو ترقب أو ذنب أو هزيمة أو خزي أو قتامة ! قد خلت حينها جُعبته من الإحساس المُرهق. 
إعتقد النحات – ولا يزال – أن جزءاً من روح الفنان ينتقل إلى عمله الفني بشكل حتمي , لذا يؤمن بأن كل منحوتاته بالمرسم تحمل منه جزءاً لهذا فإنه يستأنس بهم ليلاً ويتخيل كلماتهم تنبعث عن أفواههم الصلبة , تحدثني أمه حينما أسألها عن حاله مناولاً إياها إيصال الكهرباء الذي وصل إليهم أثناء غيابهم عن البيت فتقول : إنه مسكين .. يُحدِث أصنامه. وتسخر أخته فتقول : إن أخي مخبول يهلوس ليلاً وأسمعه بوضوح يُحدِث نفسه. لا يكترث النحات .. إنه يهيم شغفاً بمنحوتته. أراقبه بفضول قاتل ..
يُجالس النحات منحوتته كامل الغسق حتى إنبلاج الفجر مُستأنسين بضوء الشموع ورونق القمر ومراقبة النجوم , يُفرغ مابداخله من كلمات محشورة في ممر شديد الضيق بداخل نفسه عن شغفه بمفهوم الحُب العتيق الأفلاطوني ورهابه من مكائد البشر ودسائسهم وخذلانهم له وعن تطهيره لنفسه بالإعتراف بخطاياه والمُبالغة في الندم والشعور بالخزي والعار بل والإقدام على إحتقار النفس لأقصى الحدود وبكائه إظهاراً لضعفه دون أدنى إعتبار لأي شئ كذلك إعرابه عن مُسببات الضيق في نفسه على أن يكون أشرس مُسبب هو .. صمت المنحوتة !
بيد أنه إعتاد الركض إليها كلما راوده شعوراً سيئاً وكلما قوبل وِده مع البشر بالنقيض وكلما إرتكب خطيئة يعلمُ أنها لا تُغتفر , فوِصالُ المنحوتة يُذيب عذاب النحات ويجعل من نيران مساوئه رماداً متطايراً .. 
أعرف هذا دون أن ينبس النحات ببنت شفة .. 
توارى النحات عن النظر لأيام طويلة لم يخرج فيها من مرسمه الذي بات أشبه بدير للرهبان ! تخبرني أمه بهوسه وشغفه بمنحوتته وتكريسه لوقته كاملاً لها والمبالغة في العناية بها وتنظيفها كل ليلة ! نمت لحيته وإنتشر السواد حول عيناه , تقول أخته أنه لم يصل لتلك الحالة من الإهمال والتشتت منذ فسخ خِطبته الأخيرة ! 
لا يكترث النحات , فما لا تعلمه أمه أنه يتواصل بإستمرار مع منحوتته في الأحلام , على الرغم من رغبته المميتة في التواصل مع منحوتته في عالمه الحقيقي إلا أنه إكتفى باللقاء الأثيري بينهم. ظهر الكيان بالحُلم ناعماً جميلاً يضمد جروح الروح ويزرع الزهر الملون في صحراء النفس القاحطة , وأما في الحقيقة لم يكن الكيان سوى منحوتة خشبية صامتة غير مفهومة ترمقه في سخرية بعينيها المائعتين !  
بعد عدة أسابيع .. إنقطع اللقاء مع أثير المنحوتة في أحلام النحات. بكل بساطة إرتحل بعيداً , قضى النحات أياماً كاملة يتوسل إلى المنحوتة أن تعود لتلقاه في أحلامه ولكن لم يحدث فأصابه الجنون !
لهذا السبب قد جاءني منذ عدة أيام ليستعير بلطتي المعدنية , ربما ليُحطم المنحوتة , إلا أنني لا زلت أراها قائمة عبر النافذة حتى الأن !



Friday 16 March 2018

براح

إني لأرجو أن أنتبذ من الشجن مُستقراً نائياً عن طيوره الجارحة التي تُحلِق حولي وتنعق دون رهّق , فإني مُتعبٌ وواهن ولا يصحبني سوى ذلك الوجه القاتم والنغم الذي مللته ومللني ..
بئس الحظ أنه يلاحقني في كل مكان بل وينعكس على وجوه البشر اللذين ألتقيهم أو تلقى عيناي عيناهم. منذ أيام اجتمعت بهم – بعض البشر - واستأنسنا بأنفاس بعضنا البعض وآملنا أن تتسرسب منا شرذمات الأمال لتتناسل وتسكننا , فكلمة هُنا وبسمة هُناك ومزحة هنا وخاطرة هناك نخلِق منهم صِلصالاً من الطمأنينة يصحبنا في رحلتنا المُرهِقة ..
إني لا أقوى على نسيان أعينهم وهي تذرف الدمع خِفية وأفواههم وهي ترتجف من هول ماضيهم بينما تُطلِق خبايا أرواحهم الباكية وتُغلفها بإبتسامات مُزيفة ..
إلتقينا لنتحاور ولنلقي مابجعبتنا من أفكار وشعور وربما مخاوف أو أحلام ! إلتقينا لتلتئم بداخلنا جروح الروح وتتجدد أنسجة أنفسنا مرة أخرى ..
وأنا – وإن كنت لا أؤمن إيماناً كاملاً بالبشر – قد صِرتُ جزءاً من تلك الدائرة البشرية التي إنتقلت عبرها سُنن الحياة تمُر أمام أعين الجميع في خيلاء تؤكد على هيمنتها بكل محاسنها ومساوئها دون أن ينبسَ أحدٌ منا ببنت شفة , ما كان مِنا سوى أننا طمئننا قلوبنا بجهل الغيب والمآل والتضرع إلى الله ..
لم أطلِق الطيور الزرقاء بداخلي لتُحلق حرة وكبحت زمام الشعور سئماً من تكراري للمفردات البالية دون جدوى ولكنني عانقت الجميع بعيناي وسكنني أملهم وألمهم حين أبصرتُ بقلبي حُطام جدرانهم وقتما إفتقدوا أحبتِهم اللذين خلدوا إلى التُراب وحين تحدثوا عن ظُلمة وبرد ليالي الشتاء التي خلت من الأمال دون أن يؤنسهم شئ سوى أنفسهم التي تعبت من الركض في مضامير الحياة وحين ضحِكوا في حسرة على الخيبات والأحلام التي تطايرت كالعطور الرديئة واختفت عن أردية أرواحهم فتحولت مآسيهم إلى كوميديا سوداء !
ولكنهم في نهاية المطاف إبتهجوا وضحكوا وعزفوا أنغاماً على أوتار سعادتهم التي لم تصدأ وأنقضوا ظهر الحُزن الذي ظلل أيامهم طويلاً ! لقد كان لقاؤنا مسرحية تراجيدية تجسدت عبر مشاهدها الحياة بشتى الصور ..
فإلى أولئك اللذين دهنوا جدرانهم السوداء بألوان السلام وصفعوا الحزن وتفادوا السقوط والإستسلام وآثروا الصمت ومواصلة المسير ..
سلامٌ على أرواحكم وسعادةٌ تصحبكم إلى نهاية دروبكم العطِرة ..





Friday 29 December 2017

The sonata of 2017 " Four seasons "

الشتاء ..
وقفت في شرفتي , زاغ بصري في غيوم الأفق وتلحفت ببردٍ قارصٍ سادي فتجمد الدمع على وجهي , فقد ذبُلت الأزهار التي زرعتها على السور وسقيتها من قنيناتي , حتى أنني جالستها دون سئم وراقبت نضوجها ولم يكن ليومي أي مزاج جيد دون أن يداعبني أريجها بُكرةً وأصيلاً . تلك الأزهار التي تحطمت أصائصها وتفتتت وبات مستحيلاً أن تسترجع رونقها الذي زينها طويلاً ..
تجلت الأسئلة في ناظري كقطرات المطر الباردة .. هل ذبُل الزهر لكثرة ماتلقى من ماء ؟! أم ذبُل بفِعل قتامة الشتاء ؟! أم أنه سئم شرفتي فنزف الندى المُتبقي وذبُل بملئ إرادته هرباً من الملل والعناء ؟!
هطل المطر غزيراً .. ولم يكن للدفئ حينها سبيلاً !
وذلك الطفل ذو العام الواحد الذي لا طالما كان أنيسي منذ حلوله البيت , أحببته بكثرة وناولته روحي ينهل منها ماشاء من السعادة والحب والأمال التي باتت ألام تعصر النفس حينما رحل عني وعن أي جوار وإستقر في تابوت تحيطه جوقة من الكيانات السوداء تُرتِل أناشيد الوداع الأخير .. في تراب الوحدة قد دُفِن الجسد وفي دوامة الدهر غاب الأثير ..
هطل الدمع كثيراً .. ولم يكن للحياة حينها سبيبلاً !
قد بكى طويلاً طفلي قبل أن يمُت. وبرغم برودتي وأحيان القسوة وبرغم عناده وصياحه وبكائه المُزعج , كللت أذنه كل ليلة بنغمات من قيثارتي التي لا طالما أحبها فكان يسكُن ويهنئ بالنوم حتى وإن كان نهاره مريراً !
وهو قد عشق أصائص الزهر في شرفتي وداعبت ألوانها عيناه وقفز فرحاً كلما نضجت من سقاياتي وزمجر غضباً حينما أعرضت عنها قليلاً . ولما باتت فُتاتاً بكى علي طللها بكاءاً أليماً وقضى بجانبها حينه الأخير . وما كان طفلي للكلام أو الإدراك مُدركاً فطغى على روحه السواد فإبتلعه ولم يجد منه مفراً . ولم يكن لحياته حينها سبيلاً !

الربيع ..
بدت الحديقة بديعة وناداني الورد مُتراقصاً مُنتصراً في عراكه مع قتامة الفصل المُنصرِم . هربت نحو الحديقة .. أردت أن أدهن العين بالألوان ولكنها لا ترى سوى الرمادي الضبابي فلا رقص الورود أثار بهجتي ولا أريجها نسّم هواء روحي.
أحمل على عاتقي عبئاً قد أنقض ظهري , عبئاً غير مرئي لم يلحظه أقرب الأقربين فضلاً عن ذكرى قد أوصدت أبواب الحياة في وجهي ..
رآني بشرٌ ودودون أجالس اللاشئ والحزن أنيسنا , فإخترقوا المساحات وألقوا لي الكُرة فناولتها في سئم , وألقوها مجدداً فناولتها بغضب , وألقوها للمرة الثالثة فنهضت عازماً على الصياح بيد أن بسمتهم قد قتلت الرغبة وتوقف في نفسي لوهلة النواح ..
وبدأت ألقي الكُرة .. وقد إتسعت دائرتهم لتضم لاعباً جديداً ..
إعتدت اللهو اللحظي . أذبت الألام في دُعابة يتبعها ضحك مجلجل , أو فنجان قهوة كريه يؤرقني , صرخة تشجيع لفريقي المفضل , عرقلة عنيفة في الملعب , كتابٍ , فيلمٍ أو مُسلسل !
أنهكت جسدي ليطبق على روحي ليلاً هرباً من الأرق والذكرى التي لم تنم !
صرت أتوق إلى مباريات الكُرة وأصبو حلول ميقاتها لأفرغ مابجعبتي من ألامٍ تطاردني ككلبٍ أخرق !
وقد مر وقتٌ طويل حتى تيقنت أن للكرة لونٌ أحمر .. !  

الصيف ..
إما أنني أهلوس فاقداً ماتبقى من عقلي أو أنه بالفعل قد إنبثق جناحان سوداوان من ظهري !
أحتجزتني نفسي داخل غرفتي التي رمتني جدرانها بنظرات ساخرة , فذاك الذي تراقص من الفرح منذ عام هاهو الأن يُرهقنا بنحيبه الليلي ووجهه الكئيب , يلقي كلماته المُعادة ولكن هل من مُجيب ؟!
لم تكن تلك الأجنحة السوداء تنتمي إلى جسدي المُرهَق , بل هي لزائرٍ أحمق يتبعني كالشيطان يراوغ المسيح في جسد حِية !  
في الطرقات حيث تتساقط أفكاري وما أشعر على الطريق المظلم , يلملمها ويلقيها فوق عاتقي مُجدداً فأنثني وينحجب عني دربي ..
في المِرآة حيث أوجه كلماتي راغباً الخلاص , أتبين أجنحته , يتلقى كلماتي ويصفعني بنقائضها ضاحكاً مُبدداً ماقمت بتجميعه من حُطام نفسي ..
إعتدت مُسامرته , فعلى الرغم من كل شئ هو جليسي الوحيد. غرقنا سوياً في الأشعار والكلمات , وتراقصنا على نغم الصَبا والقيثارات ..
صرت أدلِله بحزني وأطعمه من ذكراي وأسقيه من كآبتي .. فبات سعيداً !
لاحقاً سئمته فتعاركنا عراكاً بدا سرمدياً .. وقد أنهكتني قواه بيد أن الندوب في كيانه المُظلِم صارت على معركتي خير شهيداً !

الخريف ..
زوربا .. زوربا .. زوربا
" هل بإمكاني الرقص ؟! " .. سألتُ , وقد أوتيت الإيماء إيجاباً. إتسعت حلقة الرقص في الحديقة وقفزات الراقصين تؤرق إستلقاء ورق الشجر المُتساقط ..
زوربا .. زوربا .. زوربا
رياح الخريف تروح وتجئ وتؤرجح حزني , فحيناً ترضى فأحلق في هواءٍ بنكهة السعادة , وحيناً تقسى فأركد كبِركةٍ جافة , ككأسِ فارغ في حانة قد تخطى مُتجرعه حد الثمالة !
زوربا .. زوربا .. زوربا
يفوح عبق الفرح وتصل النشوة أقصاها , فأقفز وجمع الراقصين , نتمنى التحليق إلى مدى بعيد . أتصاعد عن الأرض وسماها . أقفز ويحاوط قدماي ورق الشجر الخامل وأسمع بعمقٍ أنين الحفيف , يذكِرني بما تساقط من شجرة روحي قبل ذلك الخريف ..
زوربا .. زوربا .. زوربا
يتطاير ورق الشجر شاقاً طريقه نحو أراضٍ مجهولة ودربٍ قاتم . أقفز وأرقص في إنتظار الزهر القادم ..
زوربا .. زوربا .. زوربا


الشتاء مجدداً ..
أقف في شُرفتي , يزوغ بصري في الأفقِ وأتلحف ببردٍ قارصٍ سادي ليتجمد الدمع على وجهي ..
طفلي قد عاود النواح , زائراً في الحلم والإدراك , في الليل والصباح !
لا يزال فُتات الأصائص على أرض الشُرفة بلا نية لمفارقتها .. كذلك الطفلُ قد مات جسداً ولكن نفسه لن تبارح نفسي ..
زوربا .. زوربا .. زوربا

   

Monday 23 October 2017

Laughs of a sarcastic fate

لوهلة تحول العالم إلى رواية سريالية خُطت وفق عبثية مدروسة تأبى الإنجلاء فيصعب علينا تبيُن الرونق المعسول لتلك اللحظات حين نخطو للخلف فنطرق الأبواب المؤصدة نازعين أقفالها لتداعب أنوفنا قطرات العطر الباقية رغماً .. من الزمن المُنصرِم 
لا ينجلي عن الخاطر إلا الوثير .. فقط شرذماتٍ تُفقَد من كيانها المُعقد !
يأتي الشتاء كقابض الأرواح فيحل ضيفاً ثقيلاً على موطني المتهالك .. ويمل الضيف فنستأنس سوياً بنغمِ ريم البنا تُغنيتعالي إلي أو خذيني إليكِ .. إلى ألف نجمة تتوسد عينيكِ , ليَزهر الزهر الأزرق من خبايا النفس يتراقص دامعاً نَدَاه كطفلة أوتيت ملبساً أنيقاً لا طالما حلمُت بمثله بيد أنه لن يلِق بها !
يمضي الدهر فيصير الشتاء مالكاً لخزائن الذكرى المُلقاة في أبعد بقاع الروح !
يرقبني دون أن يكل , فتارة يهديني عالماً فارغاً من البشر وصقيعاً يجعلني أنتشي بينما أركض فوق العشب .. وتارة يهوي على عنقي بمنجله الملوث بالحنين نحو الغائب .. لأغدو حياً بلا حرية !
ونرقص سوياً في نشوة حينما يصدح حامد سنو : حبيبي بيحكي بالأجنبي مابيلدغ بالعغبي .. مابو شي شوبو شي
يؤرقني ليلاً فترثيني هبة طوجي : لا بداية ولا نهاية والوقت مارق غريب متل مروري بأفكارك لحظة بتلمع وبتغيب !
يغدقني المطر كما اعتاد من قبل بيد أنني حينها تراقصت مرحاً وحباً أغني بصوتي الكريه : هيمتني تيمتني عن سواها أشغلتني. أنظر لي الأن تنتفض شعيرات جسدي توسلاً لإبعاد الموج العاتي عن شاطئ الذكرى .. ولصانعيها نصيبهم من السخرية !
يُرهقني في ذروة الصباح فيذكرني حامد سنو : طاردوك وهزموك .. برمجوك وعلموك كيف ترقص زيهن !
عُد للفتاة التي لم يُلائمها ملبسها فتجدها كفت عن البكاء وإكتفت بغيره , تأمل أن يناسبها يوماً ما إن تقلص حجمها .. وقد لا يناسبها أبداً !
ثم تأملني .. فتُطَمئِن الفتاة بما تبقى في جعبتها من أمل وتواسيني ناظراً لكنانتي الفارغة من أي أمال , مُرتجفاً من بسمتي المُريبة على ثغري قبل أن تتبين جناحين أسودين قد إرتسما على الجدار حيث أستند ..  








Saturday 2 September 2017

سيزيف

سكن الليل ..
إصغ إلى ضجيج الآهات النابع من خلف أسوار الصمت والهدوء السادي الذي يتلذذ في صمت العشية ويطغي على أوجاع الروح ..
تتبع أنين النفس المكتوم , وإقرأ شعراً مخطوطاً بالحبر التالف بفعل الدموع , يصف الذكرى الحاضرة رغم الفراق والقُبلة الطويلة بعد إشتياق وبهجة الكون بين أيدي القلوب ورقصة الروح حينما تتنشق مابعثته الحبيبة عند اللقاء من عبق ..  
إنها هيبة الغسق ..
حملق للسماء فتُبصر الملائكة وقد تراصت تعانق تضرعات البشر نحو الرب حينما تحررت من أصفاد الأوجاع كيرقات الربيع تستأنس بجهل الغيب وتتدفق في كل الأنحاء كالسيل ..
سكن الليل ..
إسكن فراشك وإستلقي رهّقاً . إن في نفسك معركة أزلية في كولسيوم , عقلك أخيلوس مهما طالت هيمنته له وتر ينقضه , وقلبك كإبن بريام يعانق الجحيم لأجلها !
يسكن الليل ولا ينبس ببنت شفة , وتلفظْ الأنفاس الأخيرة قبل أن تغط في موت مؤقت حتى مطلع النهار المزعج الملئ بالصخب , ذلك الصخب الذي تحبه ,لإنه يغنيك عن الراحة التي تقذفك نحو عنابر الضيق  حيث تشهد موطن عذابك .. يا سيزيف الحزين !




Thursday 31 August 2017

أنا حر

أنا حر 
أتخذ المسار وحيدا ولكني حر كعصفور قد تحرر من القفص نحو العالم
أجوب الطرقات دون الرفاق وأشتاق إلى أنسهم ولكن لا بأس فلقاء قريب سيمحي وحشة الإشتياق
لا أري العالم يعج بالسواد والكآبة , ولا أراه زهري تتناثر فيه الورود وتترنم البشر بصفافير البهجة
أراه طريقين تملأهما العثرات وألاعيب القدر .. إما إعتناق السعادة وإما الغرق في محيط المأساة 


شهور طويلة من الوحدة والوحشة وفقدان اللذة بأبسط الأشياء وضلال الروح في طرقات مظلمة نحو لا شئ  , قد أرغمتني على النهوض من جديد والوقوف على قدمي وإن كانت تدمي 

لاقتني السعادة حينما إلتقيت نفسي التي عاتبتني على إيثار الغير دون الالتفات لأبسط أمنياتها
الحب .. 
حب النفس للنفس , أحببت الكلمات المتواضعة التي أكتب , والموسيقى البسيطة التي أعزف , وكبسولات السعادة التي أهديها لأحدهم أو إحداهن


أنا حر 

وما أجمل تلك اللحظة التي تتنشق فيها أنفاسا مريحة , وتشعر انك قد تحررت من قبضة الماضي التي تركت أثرا موجعا ولكن ليس مستحيلا أن يلتئم


جعلت أستمتع بأبسط التفاصيل وصارت نغمات  الموسيقى تطربني في نشوة لم أعهدها , ولم يعد   اللعب مع اخي المدلل يصيبني بالضجر

أبصرت العالم بعين طفل ذاق طعم الحلوى التي تمنى بعد سنين من المذاق المر
وها أنا اليوم حر 






Wednesday 30 August 2017

وتر أزرق

كلحظة خمول رنين الوتر بعد نغمة مُربِكة بعثت على الضيق في نفس المُصغي والعازف , لحظة الصمت التي إنقشع حينها أثر النغمة السادي الذي ظل سائداً لوقتٍ طويل ..  ذلك الصمت الذي يبُث شعوراً لا تُعِرفه مُفردات لغتي ! مثله كمثل ينبوع من الماء الساخن يُغدِق رجلاً قد بلغ من الظمأ حد الإستغاثة الأخيرة قبل الموت !صف ذلك بلغتك كيفما تشاء ..ذلك الوتر الأزرق في قيثارتي يُذكرني بما مضى من ألحان الروح في حضرة مؤثري الرحيل . اليوم قد خملت النغمة التي عذبتني طويلاً كبعوضة إخترقت أذني وإغتصبت مسامعي بأزيزها المُزعج !قد جال سرب الذكريات كطائرٍ حرِ يُغرد بيد أن رصاصة من بُندقية قناص مُحترف قد أردته قتيلاً يلفظ أنفاسه الأخيرة في خجل حينما تظلل بكيان من المآسي يُغمي عين الشمس ..أعزف لحناً جديداً يُطربني رنيمه ويتوج كيان الروح بإكليلٍ من نغمات وتغّني !هكذا الحياة مابين نغمة ونغمة ..أنا روح قيثارتي وهي القرار حينما أداعب أوتارها فتُتَرجِمُني إلى ترانيم تحتضن العالم من جديد


طائر أزرق

حينما أحببتُ , وشِمَ على رسغي طائرٌ أزرق , وسَكَنْ. بدا الأمرُ كما لو كان بديهياً أن يَسْكُنَ رسغي طائرٌ أزرق يَحمِلُ بمنخاره نبتةَ لافن...