Tuesday 10 April 2018

المنحوتة

قبل شهرين إنتهى جاري النحات من صُنع التمثال الخشبي الذي شرع في نحته منذ شهور عديدة , غمرته السعادة كما لو أن مطراً غزيراً قد إخترق مسام روحه. تنهد كما لو أنه ينزع عن عاتقه نير الإنتظار والتلهف ثم تراجع للخلف ببطء مُطلقاً صفارة موسيقية تصحبها إبتسامة واسعة ومُسلِماً نفسه لدفئ شمس الشروق التي تسللت في خفة عبر النافذة إلى مرسمه المتواضع والذي هو شقة صغيرة بالدور الأرضي لبناية والده ..

لم تكن تلك منحوتته الأولى , فقد نحت – بحكم كونه طالباً في كلية الفنون بالماضي – تماثيلاً عدة مِنها ماهو مُحاكة لتماثيل أصلية ومنها ماهو إبداعه الخاص , ولكن على أي حال لم يتخذ أياً من أعماله مكانة كُبري في قلبه لهذا الحد , ولكنه الأن قد شهد ميلاد عمل فني عظيم – من وجهة نظره – حيث كرس زمناً طويلاً من حياته ليصنع هذا التمثال. ألقى بجسده على الكرسي قبل أن يحملق بشغف إلى عمله العظيم . تبين البناء الغريب لمنحوتته حيث الهيئة الجسدية البشرية الخيلاء الملفوفة برداء خشبي يغطي التمثال بأكمله , ثم إبتسم في خبث مُنفثاً دخان سيجارته الرديئة الذي تراقص بفعل إطلاق الصُفارة الموسيقية , كان ذلك حين وقعت عيناه على الملامح المائعة – على طريقة سلفادور دالي - التي تمنع المُبصر من إدراك ما إذا كانت أنثوية أو ذكورية ! وإرتشف القهوة بهدوء.
يوقن النحات أن الخشب مادة تتآكل نسبياً وتتشقق تدريجياً بفِعل الحرارة بل وقد يتعرض نحته للتقوس بفِعل الرطوبة ويتفتت من حشرات السوس .. لكنه لا يكترث فهو يوقن أيضاً أنه سيهبه العناية المطلوبة .. 
لقد راود النحات حُلماً ظهر فيه ذلك الكيان وحينما إستيقظ رسمه بسرعة على ورقة بيضاء حتى لا ينساه ثم شرع في نحته. لم يُدرِك الدافع وراء نحت ذلك الكيان الغريب والرغبة المُهيمنة في إحضاره للحياة دون إنقطاع الشغف. ولكن ما أدركه النحات بشدة  كان ذوبان الشعور السلبي بوجه عام بمُجرد رؤية ذلك الكيان في حُلمه ! فلم يكن هناك حُزن أو هم أو كآبة أو إنتظار أو ترقب أو ذنب أو هزيمة أو خزي أو قتامة ! قد خلت حينها جُعبته من الإحساس المُرهق. 
إعتقد النحات – ولا يزال – أن جزءاً من روح الفنان ينتقل إلى عمله الفني بشكل حتمي , لذا يؤمن بأن كل منحوتاته بالمرسم تحمل منه جزءاً لهذا فإنه يستأنس بهم ليلاً ويتخيل كلماتهم تنبعث عن أفواههم الصلبة , تحدثني أمه حينما أسألها عن حاله مناولاً إياها إيصال الكهرباء الذي وصل إليهم أثناء غيابهم عن البيت فتقول : إنه مسكين .. يُحدِث أصنامه. وتسخر أخته فتقول : إن أخي مخبول يهلوس ليلاً وأسمعه بوضوح يُحدِث نفسه. لا يكترث النحات .. إنه يهيم شغفاً بمنحوتته. أراقبه بفضول قاتل ..
يُجالس النحات منحوتته كامل الغسق حتى إنبلاج الفجر مُستأنسين بضوء الشموع ورونق القمر ومراقبة النجوم , يُفرغ مابداخله من كلمات محشورة في ممر شديد الضيق بداخل نفسه عن شغفه بمفهوم الحُب العتيق الأفلاطوني ورهابه من مكائد البشر ودسائسهم وخذلانهم له وعن تطهيره لنفسه بالإعتراف بخطاياه والمُبالغة في الندم والشعور بالخزي والعار بل والإقدام على إحتقار النفس لأقصى الحدود وبكائه إظهاراً لضعفه دون أدنى إعتبار لأي شئ كذلك إعرابه عن مُسببات الضيق في نفسه على أن يكون أشرس مُسبب هو .. صمت المنحوتة !
بيد أنه إعتاد الركض إليها كلما راوده شعوراً سيئاً وكلما قوبل وِده مع البشر بالنقيض وكلما إرتكب خطيئة يعلمُ أنها لا تُغتفر , فوِصالُ المنحوتة يُذيب عذاب النحات ويجعل من نيران مساوئه رماداً متطايراً .. 
أعرف هذا دون أن ينبس النحات ببنت شفة .. 
توارى النحات عن النظر لأيام طويلة لم يخرج فيها من مرسمه الذي بات أشبه بدير للرهبان ! تخبرني أمه بهوسه وشغفه بمنحوتته وتكريسه لوقته كاملاً لها والمبالغة في العناية بها وتنظيفها كل ليلة ! نمت لحيته وإنتشر السواد حول عيناه , تقول أخته أنه لم يصل لتلك الحالة من الإهمال والتشتت منذ فسخ خِطبته الأخيرة ! 
لا يكترث النحات , فما لا تعلمه أمه أنه يتواصل بإستمرار مع منحوتته في الأحلام , على الرغم من رغبته المميتة في التواصل مع منحوتته في عالمه الحقيقي إلا أنه إكتفى باللقاء الأثيري بينهم. ظهر الكيان بالحُلم ناعماً جميلاً يضمد جروح الروح ويزرع الزهر الملون في صحراء النفس القاحطة , وأما في الحقيقة لم يكن الكيان سوى منحوتة خشبية صامتة غير مفهومة ترمقه في سخرية بعينيها المائعتين !  
بعد عدة أسابيع .. إنقطع اللقاء مع أثير المنحوتة في أحلام النحات. بكل بساطة إرتحل بعيداً , قضى النحات أياماً كاملة يتوسل إلى المنحوتة أن تعود لتلقاه في أحلامه ولكن لم يحدث فأصابه الجنون !
لهذا السبب قد جاءني منذ عدة أيام ليستعير بلطتي المعدنية , ربما ليُحطم المنحوتة , إلا أنني لا زلت أراها قائمة عبر النافذة حتى الأن !



No comments:

Post a Comment

طائر أزرق

حينما أحببتُ , وشِمَ على رسغي طائرٌ أزرق , وسَكَنْ. بدا الأمرُ كما لو كان بديهياً أن يَسْكُنَ رسغي طائرٌ أزرق يَحمِلُ بمنخاره نبتةَ لافن...