Friday 24 August 2018

طائر أزرق

حينما أحببتُ , وشِمَ على رسغي طائرٌ أزرق , وسَكَنْ. بدا الأمرُ كما لو كان بديهياً أن يَسْكُنَ رسغي طائرٌ أزرق يَحمِلُ بمنخاره نبتةَ لافنِدرْ بنفسجية , كأن بيننا اتفاقاً ضمنياً مُسبقاً بحلولهِ وبقائهِ. في الِبدءِ ظَلَ صامتاً هادئاً ذا وجهٍ مُتهلِلٍ مُحببٍ للنفس. أسقطَ الطائر الأزرق نبتَتَهُ على ذِراعي , فكان أريِجُها , وكان جِسراً نحو السماءِ. سَرَتْ النشوة مَسَرىَ الروحِ وانتشى الجسدُ وحَلَقَ قُرب العُبابِ وعَبَرَ السَحابْ , خفقَ القلبُ حنيناً وانبسطَ بعد إنقباضاتِ كَمَّدٍ لسعيٍ طويل خلفَ سَرَابْ.
صَارَ الطائرُ الأزرق مُرنِماً بديعاً يُغِردُ مُنذُ انزِلاقَ الصَبَاحِ من رحمِ الظلامْ حتى سكونِ العَشِيّةَ. كُلما تَطَلَعتُ إليه ظَهَرَ مُتَهَللِاً يُبَادِلُني النظرَ ببهجةٍ وانبهارْ. بات المَلَكَ الثالثَ لمَلَكِيّ اليمينِ والشِمالِ فوقَ كتِفيّ , ملكاً أزرقاً لا يَكفُ عن الترْنيمْ , يُدَوِنُ كُلَ انتِشَاءةِ تَتَيُمِ ويُرَنُِم كل نَغَمَةِ وَجْدٍ , يُغَرِدُ عنْ كَلَفي وشَغَفْي , أمسىَ يُدَنْدِنُ نَغَمَ القَيَثَارِ حين يُحرِرُ الهَوَىَ. إنه طائرٌ أزرقٌ ذو نبتة لافندر بنفسجية موشومٌ على رسغي. 
حينما فَارَقْتُ , ألَمَني الرسغُ , لم تَسَلْ الدِمَاءُ قَدَرَ الدَمَعْ. أراد الطائرُ الأزرقُ أن يَنْزِعَ عن نَفْسِهِ صَفَدَ رسغي. بعُنفٍ تَحْرَرَ , غَيرَ أنه نَسَيّ نَبْتَتَهُ عَلَىَ ذراعي , فلم يَخْبو الأريجْ. ظَنَنَتُه سَيُحَلِقُ هارباً بعيداً عن تلك الروحِ الهزيلةِ , أو سَيَسْكُنُ رَسَغَاً أخرْ , لكنه ظَلَ مُحلِقاً علىَ مَقْرِبَةٍ مِنِي , لا يبتعدْ ولا يقتربْ والأسوءْ .. أنه لا يتوقف عن الترنيم!
عَزَفَتْ روحي قُدَاسَاً مُرَوْعِاً وهَلِكَتْ في ظلامٍ دَامِسٍ , كَلَيْلَةٍ بِلاَ قَمَرْ أو نُجُومْ , لَكِنَهُ ظَلَ مُحلقاً على مقربة مني , لا يَكُفُ عَنْ التَرْنِيم. لم يَعُدْ رَنِيمْهُ ذا وقعٍ مُحَبَبٍ على نَفْسِي , بَلْ صَاَرَ أقَرَبُ إلىَ مَرْثِيَةٍ كئيبةٍ تَجْثِمُ فوق الروحِ , ذلك لإنه لا زال يُرنِم كل انتشاءة تتيم وكل نغمة وجدٍ , يغرد عن كَلَفي وشغفي , يُدندن نغم القيثار حين حرر الهوى.
لم يعُد بإمكاني تَحَمُلُ رَنِيمِه أو أريِجِ نَبْتَتِهِ الذي يَنْخُرُ عِظَامِي ويَهْتُزُ له القَلْبُ ألَمَاً. تَمَنَيْتُ أن أُسْكِتَهُ , أن أَرْديِهِ قتيلاً , لكنه حَذِرْ , وحتى إن واتَتَنِي الفُرصَةَ لإخماد رنيمه , لن أستطيعَ ذلكَ , ففي النِهايةِ كَيفَ يُمْكِنُ لشَخْصٍ مِثْلِي أن يؤذيَ طائراً فظاً بديعاً كَذَلِكَ الطائرْ!
يَرْمِقُنِي تَارَةً ويُهْمِلُنِي تارةً أخرىَ , يرمقني تِلكْ المَرَةَ بعينٍ ثابتةٍ ووجهٍ خالي من التعابيرِ , يَفْرِدُ جَنَاحِيِهِ الأزرقينِ بهيمنةٍ. رُغْمَ جَمَالِ أغَاريِدِهِ – لِمُنصْتٍ غيري بالطبع – إلا أن مَلاَمِحِهِ حَادَةٌ صَامِتَةٌ وجِامِدَةٌ .. تماماً كالمَوتْ.
لا يُمْكِنُنِي فَهَمَ لُغَةِ الطُيُورِ ولا أظنهُ يَفهمُ لِسَانَ البشرِ , لكِنَنَا نَتَوَاصَلْ. رُغْمَ ألَمِهَا , إلا أن أغَاريدهُ تَسْكُنُنِي كالمُهَاجِرِ العائدِ لوطنهِ المُبْتَلَىَ.
حينما أحببتُ , عانَقْتُ طائراً أزرقاً ورحَبْتُ به مُقدِسَاً نغمِهِ ورَنيمِهِ , ولم أدرِكْ أنَ ذلِكَ الرَنِيمَ سَيَغْدُو جَحِيماً مُصَغَراً يَتْبَعُنِي دونَ مَلَلٍ.
يوماً ما , خَبَىَ أريجُ اللافِنْدِر , وتَوَقْفَ رَنِيمُ الكائنِ الأزرقِ , وخَيَمَ الصَمْتُ. ما كان مُدهشاً هو تفتيشي بِهَوَسٍ عن الطائرِ الأزرقِ ونبتتهِ! ولم يَكُنْ هُناك. مُنذُ ذَلِكَ الحِيِنِ صِرت خدِراً فاقداً للحِسِ. مَرّ وقتٌ وانْتَبَانِي الشَوْقُ لأريجِ اللافَنِدِر وأغاريدِ الطائرِ , وتَيَقَنْتُ أنَ كِلَيْهِمَا كَانَا أخر ماتَبَقَى لِي مِنْ قُدَرَةٍ عَلَىَ الإتْيَانِ بِالشُعُورِ والحِسِ. ولا زِلْتُ بَاحِثَاً عَنْهُمْ غَيَرَ أنَ الطائرَ لَمْ يَعُدْ مُحَلِقاً عَلَىَ مَقْرِبَةٍ مني .. وللأسف فقد كَفَ عَنِ الترنيمْ.








No comments:

Post a Comment

طائر أزرق

حينما أحببتُ , وشِمَ على رسغي طائرٌ أزرق , وسَكَنْ. بدا الأمرُ كما لو كان بديهياً أن يَسْكُنَ رسغي طائرٌ أزرق يَحمِلُ بمنخاره نبتةَ لافن...