Friday 18 May 2018

لافتات ملونة

-   هل تعرف أليخاندرو خودورفسكي ؟ كريستوف كيشلوفسكي ؟ ستانلي كوبريك ؟ لا ! ماذا عن جان لوك جودار ؟! فرانسوا تروفو ؟! أندريه تاركوفسكي ؟! أوروسن ويلز ؟! لا ! فعلاً ! لمن تشاهد أفلاماً إن لم يمُر عليك أحد من هؤلاء ؟!
كانت تلك صفعة لطيفة من أحد الأصدقاء الشغوفين بالسينما حينما تحادثنا للمرة الأولى عن الأفلام المُفضلة والممثلين والمخرجين وأجمل الممُثلات على الساحة السينمائية , بيد أن ثقافتي السينمائية لم تكن قد تخطت أفلام كريستوفر نولان المُثيرة وتُحف تارينتينو الدموية وعهد مارتن سكورسيزي الحديث وبعض أفلام التسعينات الشهيرة والألفية الحديثة بالإضافة إلى سلسلة أفلام هاري بوتر الرائعة ..
على أي حال لم أشاهد فيلماً واحداً لأيٍ من هؤلاء المُخرجين المذكورين في ذلك الجدال من قبل , فقط أقرأ أسمائهم كثيراً في مُراجعات الأفلام التي يطرحها العديد من أعضاء مجموعات السينما. كلاً منهم له لونه الخاص وتُحفه السينمائية التي لا تُقدر بثمن. لا أنُكِر أنني إنبهرت بمُجمَل أعمالهم حينما شاهدتها بل أنني وقعت في حب العديد منها ولم تُفارق ذهني منذ ذلك الوقت مثل ثلاثية الألوان لكيشلوفسكي أو برتقالة كوبريك الألية ورحلة الأوديسا الفضائية التي تُمثِل لُغزاً سينمائياً خالداً , غير أنني لاحظت الإحتفاء الشديد بُمشاهدة تلك الأفلام من قِبل العديد من المتابعين للسينما بل وقد يتحول الأمر في بعض الأحيان إلى تقسيم فِرق لكل مُخرِج حيث ينتمي كل مُتفرج إلى أفلام مُخرِج مُعين ويقدسه ويُمجِده ولا يعترف بوجود بشر مِثله قد لا يُعجبهم ما يقدمه ذلك المُخرج!  

ما حركني لمُشاهدة تِلك الأفلام حديثة العهد على مسامعي راسخة الأقدام في صفحات التاريخ السينمائي لم يكن فضولاً لمُشاهدة الأعمال نفسها كعادتي حين أشاهد فيلماً جديداً بل أذكر شعوري جيداً , كان رد فعل عنيف وإنفعالي على وصفي أنني مُشاهد " mediocre " أي متوسط المستوى ليس مُحترفاً يُمثل عامة المُشاهدين اللذين ينبهرون بأفلام الكوميكس وسلاسلfast and furious   , وهو مُصطلح يندرج كثيراً في الأوساط الفنية ويُطلق دائماً على المُجتهدين في تقديم فنهم ولكن مع قلة الخبرة أو إفتقاد تام أو جزئي للموهبة! على أي حال فقد قادني ذلك النعت للغوص في عالم سينمائي لم أكن أعرف عنه شيئاً من قبل. ولم تُصبح السينما بالنسبة لي شيئاً أستمتع به كسابق العهد بل باتت منهجاً أدرسه حتى أغدو محاوراً جيداً بين رفيعي المقام في نقد الأفلام وإستخراج الكادرات العظيمة والحوارات العميقة بين الممُثلين ومعايير إستحقاق الممثلين للجوائز السينمائية و .... إلخ. بالرغم من أنها خبرة رائعة قد أفادتني كثيراً إلا أنها أفقدتني القُدرة على التمتع بالأفلام العادية المديوكر كما يُطلق عليها والتي كانت جزء مُهم من تكويني الفكري والإنساني كما كانت أيضاً جانباً ترفيهياً رائعاً يملأ الكثير من الثغرات بداخلي , فقد أدركت فجأة أنني أبذل جُهداً كجُهد إستذكار الدروس في إستخلاص الأفكار والعِبر من الأفلام القاتمة التي صِرت أشاهدها على مضض فقط لكي أحتفل بأن الفيلم العظيم " كذا " قد أصبح في جُعبتي السينمائية وأستطيع التحدث عنه ونقده دون أن أظهر بمظهر المُشاهد العادي المديوكر فأصير مقبولاً بين هؤلاء المثرثرين ومحبوباً !

قرأت من قبل إقتباس عن السير أنتوني هوبكينز من مُسلسل " West world " يعني أن المعرفة البشرية التي يسعى البشر لإكتسابها في أي مجالٍ ليتحدث عنها ويجادل بها في العديد من المجالس هو أمر أشبه بفرد الطاووس لأجنحته مُعبراً عن جماله ورونقه ومظهره الجميل. فالبشر مُعظم الأوقات يحاولون الظهور في أفضل كيان فكري وعقلاني من خلال جمع أكبر قدر من المعلومات ومحاولة الجدال بها لإن في ذلك شعوراً بذاتهم وأهميتهم. قرأت إقتباساً أخراً من فيلم Before sunrise للمخرج ريتشارد لاينكليتر , حيث تتسائل بطلة الفيلم تساؤلاً إستنكارياً " أوليس كل مانفعله في حياتنا ونعرفه ونمارسه هو محاولة لجني حُب الأخرين وإستحقاقه ؟!" أتفق كثيراً مع الإقتباسين حيث أستطيع تطبيقهما على نفسي في العديد من المواقف الحياتية الخاصة بي غير أنني لا أستطيع الجزم بأن تلك التفسيرات هي المُطلقة أو الحاسمة حول السعي خلف المعرفة أو التعمق في شئٍ ما ! فهناك شغف حقيقي لا يمُت للتباهي بصلة يولد في نفس العديد من البشر ويقودهم نحو المعرفة أكثر فأكثر .. 

الأمر بالنسبة لي أشبه بكوننا كبشر نسير طوال حياتنا حاملين لافتات ملونة ندون عليها كل ما نعرفه أو نشعر به أو ننتشي به وما يُمثِل لنا سعادة وما يُسبب لنا حُزن و.... إلخ في محاولة لإيجاد من هم أقرب إلينا من غيرهم , وإن لم نستطع بلافتتنا المُستقلة جذب الأخرين فإن ثقتنا تهتز بما دونناه على لافتتنا ومع الإحتياج الشديد للمساندة نلجأ للإنمساخ أو الإنسلاخ عن الذات .. 

ماحدث لي كان جزءاً مُصغراً من الإنسلاخ عن الذات والذي لم يكتفي أن يُسيطر عليّ في نطاق السينما فحسب بل تسرسب في خِفة إلى أفكاري وشعوري فصِرت أستعير ما أقدمه لمن حولي وأخبئ ما بداخلي حتى أظل محبوباً. إن أزمة فقدان الهوية هي مُشكلة يُعاني منها عدد مهول من البشر في العديد من الأماكن والأزمنة وهي ظاهرة ليست حديثة العهد فقد نوقشت في العديد من الكتابات منذ عقود ولعل أبرز من تحدث بها كان فرانز كافكا في كتابه الإنمساخ " حينما إستيقظ جريجور سامسا في فراشه بعد أحلام مزعجة ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة " أما اليوم ونظراً لإختلاط الهويات وإنتشار التناقض والسلبية التي أصبحت مطراً يهطُل دون توقف كذلك وضع جميع المبادئ والمفاهيم ومظاهر الألم أو السعادة كمادة للسخرية وصُنع الكوميكس إلى جانب تجِبُر الضغط المُجتمعي بات الإنسلاخ عن الذات هو أحد سِمات العصر في محاولة شبه يائسة لإرضاء مُعظم الأطراف بإختلاف أفكارهم ومبادئهم ومناظيرهم الخاصة في قياس الأمور , ما يؤدي إلى إهتزاز ثقة الشخص بأفكاره ومضمون أحاديثه وطُرق تعبيره عما يجول بخاطره وترَّصُد النفس في كل موقف حتى لا ينطق بكلمة أو يقوم بفعل لا يتناسب مع ذاته الهلامية الجديدة فتُفقِده رونقه الخادع. ويحدث ذلك حين يصطدم بأشخاص شديدي الوقاحة يبصقون تعليقاتهم الساذجة حول مظهره أو مواضيع حديثه التي لا تناسبهم مثلاً بكل صراحة تحت بند المُزاح أو الحديث الجاد بل وقد يقاطعون حديثه الشغوف والمهم - بالنسبة له - مع أحدهم أو إحداهن بتساؤل مُضلل ليس له أدنى معنى مثل " مبتزهقوش من الهري ده ! " ولكن هذا النوع هو الأسهل في تفاديه فهم حِفنة من الفارغين اللذين ليس لحياتهم جدوى , أو حين يصطدم أيضاً بأشخاص لبقين ومُنمقين بشدة في الحديث يتسرسبون بخِفة ويبعثرون أفكار الشخص بكل أناقة ويستبدلونها تدريجياً بما يتبنوه هم من أفكار ومشاعر سلبية تجاه الحياة ونظرات سوداوية لمفاهيم الحُب والصداقة والعائلة و...إلخ , والمُثير في الأمر أن دوافع قيامهم بذلك ليست ذات نوايا سيئة في العديد من الأحيان أكثر من كونها تعليقات غاشمة مُحبِطة هي رِكام لتجارب حياتية مؤلمة سابقة تُنطق ببرود الثلج وتنهي وِصال ماتبقى من الشخص تجاه نفسه الحقيقية ! فيسعى للهرب من السخرية وعدم القبول بالإنصياع للمعايير الموضوعة له ممن هم حوله وكذلك يسقط في فخ الإكتئاب وسوداية الحياة والضغط النفسي المميت. وبهذا فإن كنا بشراً نحمل لافتات ملونة فإنها تغدو قبيحة مليئة بالخربشات والشخبطات التي تُعكر صفوها كذلك تصيرُ مليئة بما يُناقض ما نحن بالفعل عليه أملاً في إرضاء الأخرين وجذبهم دون أن ندرك أن تلك اللافتات قد باتت قبيحة لا تُرضي أحد ولا ترضينا نحنُ !  

وفقاً لتجربتي فإن أحلك الأوقات هي التي تشعر حينها أنك لا تستطيع التعبير عن نفسك أو تقبلها كما هي فلا يمكنك تقبُل أنك قد تُخطئ وأن الخطأ حق إنساني , ولا يمكنك تقبل واقع أن وزنك قد يزيد وأنه يُمكنك خفضه إذا أردت من خلال التمرين دون الحاجة للهلع عند النظر للمرآة وإستكشاف مخزونك من الدهون! ولا تستطيع أن تتحدث عن كتابك المُفضل أو فيلمك المُفضل أو وجهة نظرك المناقضة للعديدين أو أفكارك المُختبئة أو مشاعرك تجاه الأشخاص والأشياء حتى لا تقع في فخ " صانعي الدراما " وهو ما يُطلق على شديدي الشكوى من الحياة والبشر أو بمعنى أدق الحساسين أصحاب القلوب الرقيقة , وهنا يتسائل الشخص " أنا بعمل إيه هنا ؟! ده مش مكاني " وكنتيجة لكل ذلك الضغط فإنه يفضل العُزلة والقراءة والأفلام – أو أياُ ما كانت وسيلة هربه من الواقع - ومطاردة الحياة وحيداً.
أؤمن أن لأي شخص الحق في إقتناء بصمة فكرية وشعورية مُستقلة وأن له الحق في التعبير عنها حتى وإن كانت سيئة - يُمكِن بكل بساطة تفادي التعامل مع أي شخص إن لم يكن مُناسباً لنا - ومِن حقه أن يُنقَد على أخطائه بلُطف وموضوعية وأن يتلقى تعليقات على جميل أفعاله كما يتلقاها على سيئها , وأن يشعر بالحميمية الصادقة من الأقربين فتلك التي تجعله أكثر مرونة في التفكير حول نفسه بموضوعية ومحاولة الإرتقاء بها دون أدنى ضغط نفسي , فإبطال مفعول الإنمساخ يأتي إما من الأقربين اللطفاء اللذين يرممون جِدار الروح المُتساقط أو من الوعي الكافي من الشخص بنفسه , وفي كلتا الحالتين فإن الإنعزال المؤقت أفضل بكثير من التواجد في حيز يصنع منك مسخاً لا يمُت لنفسه بصلة فتتحول من شخص عادي كسامسا إلى حشرة ضخمة لن يقبلها أحد ولن تقبل هي نفسها !

طائر أزرق

حينما أحببتُ , وشِمَ على رسغي طائرٌ أزرق , وسَكَنْ. بدا الأمرُ كما لو كان بديهياً أن يَسْكُنَ رسغي طائرٌ أزرق يَحمِلُ بمنخاره نبتةَ لافن...